قطرة دم


مشى قاصداً بنك الدم في مستشفى الجامعة، كان يرى نفسه ناسكا في رحلة حج، يلبس الإحرام، يقوده الإيمان بمنح الأرواح المُنهكة حقها في الحياة بعيدا عن تفسيرات الفلسفة، والعقل، والمنطق؛ فالعشق يُسَيرُ الإنسان نحو العطاء، ولا يحتاج لتبريرات وتفسيرات.

دخل لبنك الدم، ووجد ممرضة تعامله بآلية:
- انتظر هنا ... اقرأ هذي الورقة ... عبئ هذه الاستبانة ... هل تشتكي من أي مرض؟!
- لا
- هل تناولت إفطارك وغداءك ؟!
- نعم (يكذب متساهلا).
- جيد ... سأقيس ضغط الدم ... جميل، يمكنك الآن التبرع بالدم.

أخذ جرعة المُخدر، ثم تم توصيل أنبوب في عرق يده اليسرى ليسيل النزيف من خلاله إلى الكيس... الوضع مستقر لعدة دقائق، ثم بدأ يشعر بدوار خفيف... وفجأة... غاب عنهم كما غابت أطلنتس في قاع المحيط، لم يغفر لها مَعبَدُها المُمَجد لإله البحر من الغرق...
سَقطَ في الفراغ بجسده المُتصلب. ارتحل بعيداً، بعيدا جداً... لم يرى شيئاً أمامه. يُبصر البياض حين يفتح عيناه، ويكسو بصره السواد إذا أغلقها. تجلت أمامه الثنائيات بدون الملائكة والشياطين.

نطق بتعجب: "لا أرى شيئاً". تنتبه الممرضة لجملته المنطوقة بتثاقل، فتمسك يداه، وتنادي الممرض لنزع الأنبوب من عرق يده اليسرى. شَعَرَ بيد تمسكه من السقوط، فأصبح كالعالق في الفراغ، ثم سمع صوتاً انثويا يناديه باسمه بموسيقى لذيذة، فتجاهل الصوت في المرة الأولى، ليعود له الصوت مرة أخرى بنبرة ذكورية، فيستجيب: "أنا اسمعك، لكني لا أراك"، يستمر الصوتان بمناداته، ويستمر هو بالبحث عن مصدر الصوت بين البياض والسواد في اللحظة التي تمطر فيه لكمات من أيدٍ لا يراها على وجهه... كان متأكداً من حضرةِ ملاكين اثنين يحاولان إنقاذه من السقطة، لكنهما متواريان خلف البياض، أو السواد !!


فتحَ عيناه، رأى ممرضة هندية تحاول أن تشغله بأي حديث، وممرضٌ عماني شاب يصفعه على وجهه بين اللحظة والأخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

متاهة (قصة قصيرة)

موقف من الخوض (2)