محارب ظل الشمس !!


رأيته يمشي وحيدا، طالب في سنته الأولى، يبحث عن سيارة أجرة تعيده لشقته، فتخليت نفسي مكانه، وألتبست شخصيته البريئة:

محارب ظل الشمس !!
 

خرجت من الجامعة، أحمل كتابا وحاسوبا محمولا فوق ظهري، وشمس تحرق رأسي لدرجة أنني أتوهم برؤية حواجز الشارع ذائبة فأمشي متأرجحا أخاف أن أطأ ذلك السائل شديد الحرارة، وكان في معيتي شاب يلازمني كل نهار، يمشي على يميني، ويستظل خلفي من الشمس، لا يختفي عني سوى في لحظات نومي عندما أطفئ النور، أو في الليل البهيم، فهو كائن يخاف الظلام والسواد.
رمقته بنظرة حسد، فأعرض بوجهه عني يمينا، فأبديت عدم الاهتمام فأعاد وجهه ينظر الطريق، عدت ﻷراه، فألتفت يمينا !! صرخت معاتبا اياه: " ألم تكتفي من الاستظلال بجسدي ؟؟ أما آن الأوان لأن تظلني خلف جسدك الرقيق من الشمس ؟؟".

لم ألحظ منه أي شيء، أو لعله كان يحاول أن يقول شيئا وقت صراخي، تابعت المسير وأنا أتصبب غضبا ويئسا تحت حر الشمس، فلا سيارة تكسي تبشر بالفرج القريب، ولا صاحب يمتلك المبادرة لتغطية رأسي من الشمس.

واصلت المسير، وبدأت أفقد بعض الشعور بنور عيني، وإذا بذلك الأناني قد خرج من طبيعته الذي خلق فيها، ومشى كشاب بشري على يميني، يقاسي حر الشمس مثلي، بل أسوأ مني، ﻷنه لم يكن يمتلك حذاء، قال لي:
- "لم أنت دائم التذمر من الشمس؟؟ ألستم من يصفها بالمصدر الأول للنور؟؟ والطاقة؟؟ وتعتبرونها رمزا للحقيقة؟؟".
نظرت إليه نظرة المتعجب الذي لا يملك الجواب !! فقال:
- "هكذا أنتم بني البشر، تمتدحون الأشياء عندما توفر لكم الخدمات، وتتذمرون منها عندما تطالبكم بضريبة هذه الخدمات، على الرغم من أن التقصير من قبلكم !!".
- صرخت في وجهه: " من قبلي؟؟ تقصير؟؟ ها أنا أمشي تحت نور الشمس الحارق، ولك أن تحسب كمية الحرارة التي يعكسها هذا الشارع الذي لا أستفيد منه سوى أن أمشي عليه حتى يأتي صاحب سيارة الأجرة ليأخذ ضريبة أخرى على ركوب سيارته، ما التقصير في حياتي أيها الأناني ؟؟".
- يبتسم ابتسامة ساخرة ويقول: " هل لك أن تخبرني ما قمت به من أجل أن تحسن هذا التصرف في حياتك ؟؟".

لم أنظر إليه، وأظهرت عدم الإهتمام بالسؤال المعروف اجابته مسبقا، ضحك بقهقة عالية ثم عاد إلى مكانه، فأخذت أصرخ وأدوسه بقدماي، وسقطت فوقه محاولا إمساكه، كان كالزئبق لا يمسك، فمسكت بعصى من حديد رميت على جانب الطريق، وأخذت أضربه بكل قوة حتى تفتت جزء الشارع المضروب، وظللت أضرب ذلك الجزء حتى أغمي علي، فأتاني رجلان يرتديان البياض من الثياب والغترة المائلة، وحملاني بسيارتهما إلى المستشفى، وما ان فتحت عيني في المستشفى رأيت العشرات من الظلال تحت المرضى الذين يعيشون نفس الحياة البائسة، لم استطع الحديث وقتها لكثرة الظلال، فلزمت الصمت.

بعد دقائق أتاني الطبيب، وأخبرني بأنني قد تعرضت لضربة شمس، ولابد أن أكثر من شرب السوائل حتى أعوض ما ينقصني، عدت إلى شقتي مكرما بسيارة مع أحد ممرضي المستشفى الذين انتهى موعد مناوبتهم اليومية، ومن يومها صرت أخاف النور الذي يخلق الظلال، فأجلس في مكتبة الجامعة حتى الساعة التاسعة مساء ﻷركب الباص الموفر من الجامعة ﻷعود إلى شقتي في منطقة الخوض.

تعليقات

  1. نص كتب بطريقة جميلة ؛ ببساطة ظلالهم تتبعهم ومن لا ظل له لا روح له :)

    ردحذف
  2. هل لكَ أن تبشرنا بكتاب يجمع روائع خربشاتك؟

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

متاهة (قصة قصيرة)

قطرة دم

موقف من الخوض (2)