حرية مفاجِئة



انتهى الفصل، وسكنت الرياح، وما زالت السماء مليئة بالغبار والدماء، وتيجان البنفسج وشقائق النعمان.. هكذا .. فجأة تجد نفسك خارج العاصفة، تاركا خلفك دماء سالت منك أو من غيرك، وورودا تطير قد تعرف أو لا تعرف من صاحبها، كثيرون هم الذين كانوا معك في العاصفة، يستقذرون بعضهم تارة، ويحبون بعضهم تارات.

عندما بدأت الفصل الماضي لم أكن على وعي بما سأواجه خلال أربعة أشهر، بطابع اللامبالي أخذت أقصى عدد من المواد والساعات المتاحة لي في الفصل الواحد –ست مواد- ، خلال الأسابيع الأولى كل شيء يمشي وفق الخطة، لا تسويف، ولا تأجيل، حتى بدأت أول الاختبارات، بدأت الأحمال تتكدس بطريقة منظمة، يأتي اختبار، وآخر، ثم آخر ... حتى نهاية الفصل !!

فتحت عيني صباح الفصل على صخب الطلاب والدكاترة، كل واحد منهم متوجه لقبلة هو موليها. هذا الصخب يزج بي في معارك لمواجهة العالم الجامعي بكل أطيافه، هذا هو المنحنى، أن تواجه دكتورك، وأصدقائك، والبنات –يؤمن الطلاب بأنهن "دحاحات" بصورة مبالغ فيها-.

وفي المعارك، التضحية أساس التقدم والنصر: لن ترى أمك لمدة شهر في نهاية الفصل، لن تجد وقتا لرفقاء الشاي، سيذهب أصدقاؤك في رحلة دون أن يخبروك عنها لأنك مشغول عنهم. والبكاء والندم شيء زائد على حياتنا في المعارك، والخطأ قاتل، لكنك قد تصر على الخطأ حتى تتحسس ذلك الانسان في داخلك، فتنزف بخطأك، ولن يراك أحدٌ سوى نفسك.

أول الجراح كانت في اختبار في مادة القياسات، استلمت ورقة الاختبار القصير، كتبت اسمي، ورقمي الجامعي، قرأت الأسئلة جيدا، كتبت المعطيات على الطاولة، ثم نظرت للورقة وراودني الحياء بأن أسلمها فارغة بعد ربع ساعة من استلامي لها ... كتبت أرقام الأسئلة والجزئيات، وسلمت الورقة ... بعد أسبوع من الحدث، الدكتور حسن يوسف يسلمنا الأوراق، وعندما نطق اسمي بقيت ساكتا، كاتفا بيدي، في آخر الصف، فظن أنني غائب وتجاهل ورقتي، وتابع:
-       -  فلان الفلاني ، علان العلاني  .... آه منذر ! دا أنته حاضر اليوم مخفي ؟؟
-        -  لا دكتور أنا ما احتاج ورقتي !
-        شوف ورقتك وبعدين تكلم..
-        لا دكتور أحسنت ما أريدها من خاطري.
-          تفضل خذ
أخذت الورقة، كانت لاختبار سابق والدرجة 10\10 !! ابتسمت للدكتور وتابع توزيع الدرجات ... انتهى من الأوراق السابقة وجاء لتوزيع أوراق الدرجة "صفر":
-       -  فين دا منذر اللي بيتعبني اسمه ؟
-        هنا دكتور.
-         أسمك بيتعبني كتير بالقراءة.
-         لكني ما تعبتك بالتصحيح. ( مبتسما).
-        ( ينظر للورقة باستغراب) ، آآآآآه ! دا أنته أبدا ما تعبتني !
على الرغم من "النكسة"، ظل الدكتور حسن محتفظا بالموقف، وقبل كل حدث يذكرني –في أذني حتى لا يحرجني- بأن كل شيء في يدي، "الصفر" أو "الدرجة الكاملة"، ولا أدري ردة فعله إذا قرأ القصة التي أخفاها لمدة شهر خوفا من "احراجي" على الانترنت ليقرأها كل شخص يعرفني –مع العلم بأن أغلب الشباب حولي عارفين القصة- !

وفي المعركة، سينظر الجميع لرافع الراية المنتصر، سيشير لك الجميع بأصابعهم لأنك حصلت على الدرجة الكاملة، حتى لو كانت ناقصةً نصف درجة أو درجة واحدة .. كما في مادة الأنظمة المنتظمة، الجميع يعرف درجتك لأنها قاربت الدرجة النهائية، والجميع يستشيرك في المادة، لكنهم لن ينظروا لجانبك النازف: صفر الدكتور حسن، والـ 22\40 في الاختبار الأول لمادة الأعداد المركبة –بالحقيقة كنت متقدما على متوسط درجات الفصل بدرجتين- ...

لن يبالي أحدٌ بك عندما تنزف في المعركة، لكنك ستسمع كلمة سلامات ألف مرة لأنك مصاب في كاحلك وأنت تركض على البحر، خارج المعركة، فقط لأنك أصبت خارج المعركة ستسمع المواساة.
الفصل الماضي هو الشتاء الذي ننام فيه، نستسلم له بإرادة أجسامنا ورغما عن رغباتنا، حيث نشعر بأن الهواء يجثو على صدورنا كجبل من الواجبات.  شتاء ينكمش فيه مثلث الماضي والحاضر والمستقبل لضلع واحد فقط، وهو الحاضر، لا ماضي كان معي، ولا غد.

يضع آخر امتحان "نقطة" في نهاية الفصل. دائرة صغيرة لا قطر لها ولا عمق كافية لإنهاء كل العبارات والجمل !! وكل شيء حولنا قائم على تجمع عدد هائل من النقاط، في البداية لم أرى سوى خطة الأحداث المتوقعة للفصل، وفي النهاية لم يبقى سوى "نقطة"، نقطة أشبه برقم صفر مكتوب على امتداد الأرض طولا وعرضا، تُخفي خلفها بداية جديدة لا تدري أين تشير بوصلتها.


وتنتظر، ثم تضحك لأن اللعنات تأتي دفعة واحدة، في ثانيةٍ مَرت، ولم تعد موجودة.

تعليقات

  1. لا أعلم لما الكثير مؤمن بأن الفتيات دحاحات !! الدح لا يأتي بسبب صفة جنسية أو نسل عائلي , الدح يأتي بالاجتهاد .. و صدقت حينماا قلت بأن لا أحد يرى الجانب النازف .. ف الجميع شاهد على رايتي في مادة الإحصاء ولكن لم يروا يدي لمبتورة في مادة الحساب , و هذا أمر جيد بالنسبة لي و لأنني لازلت أمشي بفخر و شموخ لم تحطمه اليد المبتورة لان الجميع منشغل بالرايه التي احملها ,,, جميل م سطرته

    ردحذف
  2. تجربة جميلة ، والجميل شجاعتك في طرح تجربتك وعدم شعورك بالخجل والاحراج من نفسك ...
    اعجبني اسلوبك في طرح التجربة واستعمالك لبعض التعابير و المصطلحات " فن" .
    واتمنى لك ان تكون خرجت من " المعركة" سليماً ضاحكاً معافى 💕
    وتمنى لي ذلك ...
    صديقتك : رانيا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

متاهة (قصة قصيرة)

قطرة دم

موقف من الخوض (2)