صدمة ..

مصدر الصورة: موقع الجامعة



اتذكر أول أيامي في هذا الصرح الجامعي الممتد لعدة كيلومترات طولا وعرضا، صدري يحترق شوقا ينبع من قلبي لبدء عامي الدراسي الأول في الجامعة، أحمل في ذاتي الكثير من المعتقدات والآراء التي شربتها في بداية حياتي، كل شيء واضح أمامي، السماء، والأرض، والجبال، والوثن الشامخ كتمثال "المسيح المخلص" في البرازيل.

في الحرم الجامعي، أصبحت حياتي لي وحدي، في غرفة يشاركني إياها صديق قديم وآخر تعرفت عليه في الأسبوع التعريفي للطلاب الجدد في الجامعة، الأول مثلي، لكنه في آخر سنة دراسية له ويمتلك ما يكفيه من الثقافة لترسيخ آرائي التي شربتها في طفولتي. كلها سنة وانكمشت الغرفة لتحتوي شخصين فقط.

في لحظة ما، أمام كل المتغيرات في منطقة الخوض - شخص ساقط على الرصيف جراء جرعة زائدة، شباب يتعاطون شيئا ما في مقهى قريب من سكنك ولا تعرف كيف تنفضهم ليفيقوا من سباتهم، زميل لك يعربد في شوارع مسقط ومراكزها، زميل ينصحك بالابتعاد عن قراءة كتاب السر لما يحتويه من شرك وأفكار منحرفة، زميل متشدد لا يقبل الآخر-. هنا يحق لطفل أن يرتعش، جدران الأمان تتساقط للخارج وعليها أشباح يقيني، وسقف مفاهيمي يتطاير تدريجيا، أصبحت وحدي، أنا، ولا أحد سواي، في مكاني، أحن إلى القديم، إلى تاريخي، وجدراني، وأشباح يقيني، عندما فقدتهم لم أجد مستقبلي، ولا مكان عطري بعد أن تذبل وردتي.

يومها، أصبح الوعي غربة تملأ قلبي، والنوم راحة تخلق السكينة بأحلام الماضي وأشباحه. لن أشعر بالغربة إذا كانت كل تلك الأشباح حولي، ترقص جميعها على نغمة واحدة، يفعلون ويفكرون مثلي.

إن وحدتك مع محيطك -بدون تلك الأشباح الممسوخة- تجعل الخسارة تهاجمك بعنف مستمر، تخسر أصدقاء، وأحباء، وتتفكك تلك الأفكار التي رضعتها قبل وحدتك، ولم يعد المستقبل هو نفسه، تغيرت كل معطياتك، واحتمالاتك تمردت خارج دائرة تنبؤك، لم يعد هناك شيء تستطيع التأكد منه، حتى عندما ترى بوصلتك تراها تشير لأرض مجهولة، ربما ليس لها وجود، أو لم يعد لها وجود. هذا المرض يكرر نفسه يوميا، أنا بلا سقف أو جدار وبلا أشباح اليقين أكون معرضا للبرد كل ليلة.

أحاول المشي، فأرى نفسي مرات ومرات في فخ الزمن وتناقضاته، بالأمس فقط كنت من الأوائل في كل شيء، واليوم جاذبية الأرض تضاعفت آلاف المرات على جسدي، لماذا ينهار كل شيء حولي؟! أشعر وكأن الجامعة لم تأتي إلا لتهدمني وتبعثرني في حياتي. في أول أيامي بالجامعة أذكر أن أحد الدكاترة في كلية الهندسة قال لنا: "لا ترفعوا سقف طموحاتكم أكبر من حجم الجامعة، ممكن تنصدموا بأشياء كثيرة ما كنتوا تعرفوا عنها". أنا متأكد بأنه لم يقصد كل هذا الانهيار اللامحسوب، لكنه أشار لصدمة.

الصدمة، هي الطريق الأول للتغيير، لهدم الزيف والوهم العالق في ذهني، ستحاول أشباح الماضي حينها أن تحافظ على بقائها وارجاع كيانها المهدوم، لكني سأنهض بجسدي الثقيل تحت ضغط الجاذبية لطريق جديد، إلى عناق مع روح، أحيا بها، وتحيا بي.


تعليقات

  1. الردود
    1. شكرا لك عزيزي ،، لك كوب شاي كبير، ضبط موعد.

      حذف
  2. "لكني سأنهض بجسدي الثقيل تحت ضغط الجاذبية لطريق جديد" ..!

    و هذا ما ينبغي ^_^ .. راقت لي هذا العبارة .. تجدد الأمل في النفوس..
    سلمت يمناك أخي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

متاهة (قصة قصيرة)

قطرة دم

موقف من الخوض (2)