فراغ


ولدت البشرية في أحضان وجودٍ سَلَمنا له أمرنا، وغمرنا السلام معه لأن أحداً لم يرى نهايته حتى الآن، واتخذنا منه زاوية لبناء المُدن ومستعمراتنا، وقبل بضع مئات من السنين كنا نعتقد بأن الانسان هو مركز الكون، وكل شيء يدور حولنا، أي أننا المُطلق، وما دوننا هو النسبي، حتى بَدت لنا سوءتنا بالعلم الحديث، وثَبت أننا لسنا أكثر من حبة رملٍ تسبحُ في الفراغ.
وداخل هذا الحيز الموجود -في الفراغ- تفرقت البشر لدول وقبائل وقرى وعوائل وأفراد، وبسبب هذا التقسيم خَلقنا فطرة في ذواتنا وهي تصنيف الأشياء الموجودة بأشكالها وصفاتها وملمسها، وأصبحنا عاجزين عن لمس ما لا نستطيع تصنيفه وفق المنظومة التي أوجدناها –لأنها الوجود-.. مثلا إذا كنت في حديقة الجامعة، وبدى لي مخلوق غريب، يشبه البشر لكنه أقرب لمخلوقات هوليهوود الفضائية، مخلوق يفتح فمه ولا يغلقه إلا عندما ينطق حرف الباء أو الميم أو الفاء في مجتمع شبيه بمجتمعنا نغلق فمنا ولا نفتحه إلا عندما ننطق باقي الحروف. يختلف هذا المخلوق معنا في عادة سائدة، وعامة، ومن الطبيعي أن نوجد له تصنيف مختلف عن المجموعات المتعارفة معنا، ونضعه فيها –لأنه صار موجوداً-، وغالبا ما تكون التصنيفات الجديدة سيئة من وجهة النظر السائدة، في حين أن هذا المخلوق قد يكون ألطف وأنظف من الانسان نفسه. معنى أن شخصا ما انفرد بحياة أخرى مختلفة عن الناس هو تعريض نفسه إما للخطر أو السخرية.


الفراغ، نقطة البدء لكل شيء -ربما-، انبثق منه الانفجار الخالق للحياة، وأنبتنا هنا، على الأرض. تتوق نفسي للفضاء، حيثُ الميلاد الأول للكون، راودني شعور في أول يومٍ لي من سنتي الأخيرة بأن أُصبح رائد فضاء، واحدا من أولئك الذين انتشرت عنهم الإشاعات بأنهم جاهزون للانتحار في حال ضاعت بهم السُبل في الفضاء، ولهذا السبب لجأت اليابان لصنع آلة تتحدث مع رواد الفضاء.. تخيل حجم الموقف !! رجل وحيد في الفضاء، والآن مجتمع من العلماء يحتفلون باختراع آلة تتحدث معه !!

الناس تُقدس كل من زار الفضاء، وهم ليسوا سوى فئران تجارب حلت عليهم لعنات علماء الأحياء والفلك والفيزياء وبعض المهندسين، تم ارسالهم للفراغ، العيون تتجه إليهم من الأرض، العالم يراهم وحيدين ولا يُحرك سوى يديه بالتصفيق لهم على انجازهم بالوصول للفراغ.


في بعض الأوقات أحسد رواد الفضاء على حياتهم الوحيدة، وأحيان أخرى أشعر بأنهم مجرد فئران تجارب، فأشعر بالحزن على حياتهم المحصورة في مختبر أكبر من البيئة التي نتعامل معها !! أعشق أولئك الفضائيين، واختلافهم ... نعم في لحظتي أتمنى أن أكون من المهندسين المنفيين في أقطاب الأرض، يحرسني العسكريون بموافقتي، ويخنقون الهواء بنا ... أن تكون منفيا، معتزلا، متصوفا، أن ترى انعكاس صورتك على ماء الروح، تراك متجليا وفكرتك أمامك. وحيدون، منفى وكُتب ومختبر وموسيقى، في الفراغ الأبيض.

********************************
هامش: تراودني رغبةٌ جامحة باعتزال المُدن، والغابات، وأحيا بعيداً، منفيا عن الحيوات التي طبعَ الله الناس عليها.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

متاهة (قصة قصيرة)

قطرة دم

موقف من الخوض (2)