عزيزتي أُختي


عزيزتي جنان..
أكتب لك وأنا بعيدٌ عنك، وأنتِ طفلة صغيرة لم تتجاوز سنتها الثالثة لتتهجأ هذه الرسالة ... أتجه الآن لغرفة النوم من دون أن أجرُ أيُ أحد إليها لينام معي، المكان هادئ، ومُرتب بصورة مُريبة. طالما شعرت بأني ابن الفوضى في هذا الكون، وكذلك يجب أن تكون غرفتي، ولكن صديقي في الغرفة يرفض فوضاي، ودائماً ما يحاول اجباري على اتباع ارشادات تضمن نظام الغرفة. لقد رتب هذا "المُنظَم" الغرفة، وتركَها ليعود وينام في بيته -حيثُ أمه وجنة دنياه-.
أطفأتُ الضوء، وتوجهت للسرير، لم أجد صعوبة للوصول إليه بسبب خلو الأرض من كل شيء عدا سريرين في زاوية الغرفة، صعدتُ السرير برجلي اليمنى وقلت: "يا أناي، إني أسألُك صُحبتَك" ... ذكرت نفسي لأنني أشعر أحيانا بحضرة أحدهم معي في الغرفة الخالية من الأصدقاء، أحسُ بوجود "أنا الآخر" تحت السرير، أو في 'الكبت'. وأظلُ كذلك حتى أتوحد مع ذلك الآخر في جسدي، وبعد ذلك يحتلني الشعور بأنني مُسجى ووحيد في هذه الغرفة الواسعة. الظلام يُحيط بي وكأنني في فراغ ممتد لا نقطة نور لنهايته، ولا يدٌ يسرى صغيرة لتلتف على رقبني، وتنتشلني من هذا الظلام الذي يُذكرني بالأبدية، والموت. الشعور القادر على هزيمتنا جميعاً ... هل ترين أبانا ؟! كُنت مثلك، أراه أقوى من كل شيء، وقادر على حمايتي من أي شيء، حتى رأيتُ أول يوم شؤم في حياتي، في سنتي الخامسة من الحياة.
كُنت أذهبُ للروضة، وابنة خالك في صَفي، أستطيعُ أن أراني جالساً في منتصف الفصل، وهي على يسار مقدمة الفصل، وما بيننا وحولنا روضة مجردة، لا أذكرُ شيئاً آخر عنها ومكانها وشخوصها. عند عودتنا للبيت في ظهيرة ذلك اليوم في حافلة -لا يحضرني لونها- ركضَ إلينا أبناء خوالك، كانت هي أمامي بخطوة تنزل من الحافلة، وأحدُ الأطفال ينطق بعفوية: "عمي مات"، وهنا يحضرُ في ذاكرتي أول صوت مسموع لأناي الآخر، همسَ في قلبي: "الغبي، يخبرنا وكأن شيئاً لم يكن". نزلتُ بعدها من الحافلة، ووقفت أنظر إلى بيت جدي لوهلة، ثم تابعت الطريق إلى البيت...ثم...فجوة زمنية... حتى رؤية دموع أبي على خالي، نعم... رأيتُ الإله يبكي أمام الموت.
سُلبت ابنة خالك جزء من طفولتها برحيل أبيها عنها، كان أبوها أقوى شخوص العائلة، له صوت مسموع في العائلة، ومكانة كبيرة في كل مكان، صَدَقَ كلامي -وأنا طفل صغير- ذات يوم، وكَذَب أحد الكبار. شارك في صفوف الجيش أيام "حرب تحرير ظفار" في عهد السلطان قابوس، وتابعَ الهموم العربية بأمل، وكان دائم الانتصار لقادة الحروب ضد الاحتلال الصهيوني، وهو الآن ليس معنا.
وأنا معكِ، في حضنُك، لا أفكر أكثر من توجيه نَفَسَي بعيداً عنكِ حتى لا أُزعج نومك، خاصةً وكوني مهوسا بترك بعضا من معجون الأسنان بين أسناني لأحفظها من التسوس، وعندما أتقلبُ ليلاً لا أنسى أن أتحسس مكان جسدك اللين خوفاً من أن أطأ عظامك اللينة.
عندما كُنت أكبَرَ منكِ بقليل، كنتُ أنتظرُ أخاك صلاح لينام، ثم أمسكُ يده. لا أدري هل يعي أو يتذكرُ ذلك اليوم، لكنني أذكرُني جيداً، وأراكِ اليوم -عندما أُمَثلُ نومي بجانبك- تلعبين بلحيتي المُدرجة، وتمسحين على شعري... هل تفعلين هذا لأنني ألعبُ بشعرك القصير أثناء نومك؟!
أرجو أن تشعري بي، وببئر الفراغ الذي أشعر به.. أحبك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

متاهة (قصة قصيرة)

قطرة دم

موقف من الخوض (2)