مرآة


أنهيت اختبار الجيولوجيا العملي، خرجت من القاعة ماشيًا بخيلاء، ويميني قابضةٌ على ورقة أسئلته كيد فارسٍ يحمل رأس عدوه بتباهٍ، وغير مبالٍ بما خلفه سفك حياة رجل ما... الاختبارات لا تعني لي شيئا سوى شيء يجب التخلص من رأسه بالوقت... قدماي تجريان بي حيث لا أعرف، أُناس يمشون بدون اكتراث بشكلي الذي ينم عن خروجي من الاختبار، وأعمدةُ جدران خشنة الملمس لا أكف عن لمسها على طول ممرات الجامعة... تسقطُ أصابعي على عمودٍ ناعم الملمس، أدير بصري اتجاهه لأنتبه أنها غطاء زجاجي لواجهة معرض للفنون التشكيلية، لم أجد مقاومة من نفسي تمنعني من الدخول، فماذا سوف أفعل في نهارٍ أبدو فيه وحيدا مع رأسِ اختبارٍ ممل!؟

***********************
منذ ذلك اليوم المشؤم -قبل سنة- وأنا وحيد. أصدقائي بعيدون، غير مبالين بصديقهم المشوه بجرح يشبه الهلال. كنت قبل ذلك الوسيم بينهم، وفي حضور فتاة حولنا أتحدث إلى أصدقائي بمواضيع تهم تلك الفتاة، أتقن دوري بحركات جسدي المصطنعة، ونغمة صوتي، مثل الممثل على مسرح مونودراما ... أنا ممثله، ولا يحوي سوى مشاهدةٍ واحدة، تلك الفتاة... أما أصدقائي فهم خشب المسرح وستارته وأضواءه.
أغويت الكثيرات برقصتي تلك، وتكاثر الأصدقاء والأعداء حولي، كنت أرى نفسي في حديث مقهى الجامعة وممراتها... وأصبحتُ اليوم هامشها المهمل.
***********************

دخلت المعرض، رحبت بي فتاة في ركن الاستقبال، تسدل شعرها على أكتافها، ابتسمت وعيناها تبرقان براءة، ابتسمت لها بطريقة تعرض تشوه وجهي بصورة أكثر وضوحا، لعلي أستميلها بالشفقة علي. رفعت حاجبها وأشارت إلى لوحة معروضة على زاوية المعرض، توجهت إلى اللوحة مباشرة دون الاهتمام بالأعمدة واللوحات حولي وأنا في طريقي إليها... يحيط بها إطار لامع، يحوي بداخله شاب وسيم لا يشوه وجهه جرح مثلي، أنفه كأنفي، وأذنه كأذني، الأرض تحته صحراء، يمسك في يديه أنبوبا يطلق بالونات الصابون منه، والسماء مليئة ببالونات الصابون التي تنفجر جميعها في اللحظة التي تتجمد فيها اللوحة...

نعم، تذكرت اللحظة التي كانت ستؤدي بحياتي في المعمل، كنا نختبر صلابة الصخور، وبعدما أنزلنا آلة الاختبار بثقلها على الحجر، طارت منه قطعة لتضرب وجهي العاري من خوذته، انقلبت سمائي ضدي حينها، وفقدت مهاراتي بالرقص، ثم اختفى أصدقائي من حياتي، كالبالونات المتفجرة. من أخذ تفاصيلي وجسدها في لوحة؟ من هذا الرسام ؟ اسمها منقوش على الجزء الأيمن من اللوحة، تماما كمكان ندبة جرحي، اسمها "منى"، ذهبت لفتاة الاستقبال لأستفسر عنها، وقبل السؤال قرأت اسمها "منى" على بطاقة التعريف المعلقة حول عنقها، نظرت لجزء من صدرها المكشوف من الأعلى، تذكرت "منى"، أغويتها بغنائي ورقصي، وقضيت معها ليلة في سنتي الدراسية الثالثة، قبل حادثتي بسنة، ثم أهملتها، كالكثير من الفتيات مثلها. ركضت عائدا إلى اللوحة، شاب وسيم، يخلق علاقات كثيرة، وهشة، تتفجر ببساطة. الفكرة أبسط من كل تحليلي السابق... والإطار نحاسي مرشوش بمادة لامعة. " أنا لست ذهبا، أنا لست ذهبا" ( صرخت ). كسرت الزجاج، تناولت جزء منه، شوهت خدي الشاب باللوحة وجبهته، خرجت من المعرض بخطوات سريعة قاصدا غرفتي في سكن الجامعة، نمت بدشداشتي. صحوت ليلا لأذهب إلى الحمام، فأبصرت نفسي في المرآة، مشوه الخدين والجبهة.

______________________________________________

هامش: "الفن هو كل ما يهزنا... وليس بالضرورة كل ما نفهمه"، من ذاكرة الجسد; لأحلام مستغانمي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

متاهة (قصة قصيرة)

قطرة دم

موقف من الخوض (2)