أصابع قصيرة

مثقل بالنعاس والكسل. فتحتُ عينيّ بعدما رنَّ المنبه لنصف ساعة متقطعة. معدتي تصرخ وتبحث عن شيء ليسكت العصافير الغاضبة بداخلها، وشفتاي جافتان كصحراءٍ لم ترى سحابة منذ عقود. ما زلت بثياب سهرة البارحة -جينز وقميص أصفر-، ويمتدُ مني لونٌ أحمر لزق... نعم، إنه دمي!
قصدتُ الحمام لأنقع ثيابي في دلو من الماء وأنظف أسناني؛ فطعمُ لعابي حامض بسبب نومي الذي داهمني دون أن أغسل أسناني أو أبدل ثيابي. كانت ليلة كئيبة، قضيت أغلبها خارج المنزل. بَدَأَتْ مع غروب الشمس حين أرسلت لي حبيبتي: "لا أُحب الأصابع القصيرة".
لم تشعر المجنونة بحجم النار المشتعلة بكلماتها الثلاث، ولم أرد على رسالتها. نظرتُ لأصابعي، ثم لبستُ الجينز وقميصي الأصفر وخرجت من شقتي.
مشيتُ على غير هدى، لا أرى سوى أضواء الشوارع والأرصفة... حتى تذكرت الناس، رفعت نظري، فرأيت الناس في سوق الخوض يمشون وكأنهم عميان بفمٍ مفتوح على آخره، رائحة السوق تشبه إلى حد كبير رائحة تعفن ثلاجة غرفتي بعد إجازة دامت ثلاثة أشهر... مرضى، جميعهم بلا استثناء.
بدأ الجميع بالزحف نحوي فور رؤيتهم لي، عظامهم تصدر صوتًا عند حركتهم كصوت بابٍ في بيتٍ قديم مهجور، رافعين أياديهم نحوي، ويصدرون صوت آهات جافة تستنجدُ بدمي ولحمي... وكأنهم يرون فيَّ آخر محاولة يائسة للبقاء على قيد الحياة.
ركضتُ بكل قوتي بعيداً عن السوق، المَرض كان خلفي، يطاردني، وكأنه يبحث عني أنا فقط. لم أتوقع أن أرى نفسي مريضاً، أبداً... كنتُ محافظاً على صحتي، جدولي الغذائي، والرياضي... لا يمكن لهذا لمرض المعدي هذا أن يصلني.
ركضتُ ساعة في الليل، لم أجد في طريقي سوى الخوف نفسه، ومسافةٌ زمنية قصيرة جدا بين أعمدة الإنارة، جريت بكل سرعتي حتى رميت نفسي تحت شجرة (ملكة ليل) تَتكئ على جدار فلة صغيرة... توقفت لوهلة أتجرع هواء الليل البارد الممزوج برائحة الشجرة، وأزفر دفئًا يشبه حرارة الروح... مسكت جذع الشجرة الصغير ومددت بصري للأعلى، رأيت الشجرة تتسلق الجدار نحو السماء؛ ما دفعني للشعور بأنني متمسك بالسماء، أو أعانقها.
بعد وهلة، سمعت قهقهة فتاة قريبة، أدرتُ وجهي شطر مصدر الصوت، فتاةٌ جميلة تضحك ويدها على فمها. والأهم أنها فتاة طبيعية، تمتلك فمًا يُغلق وينفتح، ولها يدان تتحركان برقة مع ضحكتها، ربما هي مثلي، لم تصب بالمرض بعد.
"لماذا تمسك بالشجرة وكأنها قشة ستنقذك من البحر؟". تسألني.
أجبت: "ماذا؟؟ متمسك بقشة؟ شجرة؟ لا... لا شيء! لكن كيف مَرَضَ كل هؤلاء الناس؟!".
ترد ضاحكة: "ما بك؟"... تكتم ضحكتها وتتسع عيناها استغرابا، ثم تتابع: " لم أسمع عن أي مرض".
"اذهبي للسوق سترين عن أي مرض أتحدث، انه ينتشر بين الناس كحبرٍ انسكب في اناء".
تردُ ضاحكة: "هل أنت مجنون؟ ربما أستطيع معالجتك، فقد سبقَ لي أن نشرت ورقة بحثية حول سلوك إنساني يشبه حالتك... اقترب مني وتحدث".
"بشرط واحد".
"ما هو".
"أن نتحدث في مكان لا يرانا فيه أحد... أنا خائف".
"حسنا، ادخل معي للبيت".
اجتاحني الفضول والخوف في لحظة واحدة، كيف لفتاة أن تدعوك ببساطة إلى ڤلتها، خفت لوهلة أن تكون متآمرة لنقل المرض اللعين إلىَّ؛ فلماذا هي الطبيعية الوحيدة من بين كل هؤلاء... تبعتها وجلستُ معها في الصالة.
الشاي الأخضر بالنعناع وكوب من المكسرات على الطاولة –تماماً كما أحب-، وعلى الجدار المقابل لوحة (مذبحة الأبرياء) لبيتر بول غير أن المرض يبدو على الأطفال الضحايا بعكس اللوحة الأصلية، أجسادهم ذابلة كورود منسية في الصحراء، وتفاصيل عروق أيديهم بارزة وواضحة، لقد أهلكهم المرض وجنود هيرودس يحاولون التخلص من هذا المرض... اللعنة على مرض يتخلص منه الطاغية بقتل الأطفال.
دفعتُ بكرسيّ إلى الوراء بحركة مُفاجأة، قامت من مكانها ومسكت يدي:
"اهدأ، اهدأ ... ما بك".
"لا، لا شيء".
"الآن، أخبرني ما بك".
"لا شيء، لا شيء سوى الخوف من المرض".
"تحدث، الآن، سأجدُ حلاً لخوفك، أعدك".
بدأت أتحدث بشراهة، وهي لم تُفلت يديّ قط، الأمر الذي يدعوني للتحدث، والتحدث... كنتُ أشعر بأن لو كان شعوري في جدار أو حصاة صماء لنطقت، وتحدثت بكل ما بها...
بعد ذلك ضغطت على يدي، وقالت: "حسناً، أصابعي طويلة، خذ أصابعي وأعطني أصابعك".
نزعت أصابع يدها اليسرى ثم أخذت يدي اليسرى وخلعت أصابعي منها، كان شعور نزع الأصابع أشبه بخلع سن من مكانه... ثم زرعت أصابعها اليسرى مكان أصابعي، وكذلك فعلت باليمنى بعد ذلك.
أصبحتُ الآن أملكُ أصابعاً طويلة، لا أدري كيف بعث الله تلك الفتاة إليَّ... نظرتُ للوحة مرة أخرى، كانت لوحة بيتر بول الأصلية ... شربنا الشاي معاً ثم خرجت عائداً إلى شقتي، كل شيء طبيعي، السوق، الناس، حتى الهواء كان أخف من ذي قبل.
في الشقة، توجهت للمطبخ لأعد العشاء، وبدأتُ بتقطيع الخضار -هوايتي الأساسية في الطبخ-، تعودتُ على فعل هذا لدرجة المهارة، وبسرعة فائقة، وضعتُ الخس على طاولة التقطيع، مسكتها بيدي اليسرى، وبدأتُ أقطعه بسرعة... سال دمٌ غزير، قطعتُ جميع أصابع يدي اليسرى عدا الابهام !! عادت لحجمها الطبيعي! لم أتعود بأن أملك أصابعاً طويلة، ولم أضع لها أيَّ حساب لطولها أثناء تقطيعي للخضار.
غسلت يدي، ونظرت لأصابع يديّ غير متساوية غير المتساوية، أخذتُ السكين مرة أخرى، وقطعت أصابع يدي اليمنى وابهاميّ، ثم ذهبتُ للسرير، ونمت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

متاهة (قصة قصيرة)

قطرة دم

موقف من الخوض (2)